رواية سوق إبليس الفصل الاول والثاني والثالث بقلم ولاءرفعت على حصريه وجديده
رواية سوق إبليس الفصل الاول والثاني والثالث بقلم ولاءرفعت على حصريه وجديده
الدنيا كالسوق حيث ينصب الشيطان رايته، هنا المال المتحكم الأول و الأخير و لكل شىء ثمنه و قدره، لا تخدعك المظاهر فكم من وجوه يرتسم عليها الخير و الطيبة و يتضح إنه مجرد قناع يخفي أسفله الشر بعينه، لا تتعجب يا عزيزي فهذا سوق إبليس.
#سوق_إبليس
#بقلمي_ولاء_رفعت_علي
༺الفصل الأول༻
منذ عشر سنوات...
في قرية صغيرة بمحافظة الدقهلية، أمام إحدي البيوت القديمة التي تم بناؤها بالطوب اللبن، يلهو الأطفال و يلعبون لعبة التخفي «الأستغماية»
يصيح إحدي الأطفال:
"خلاويص".
يجيب الأطفال في صوت واحد:
" لسه".
و في زاوية خلف سور قديم، تختبئ ذات الضفائر السوداء الطويلة و بجوارها طفل آخر.
و علي مقربة تنادي سيدة ثلاثينية علي ابنتها:
"سندس، بت يا سندس روحتي فين؟".
كادت الصغيرة تنهض لتلبي نداء والدتها لكن أوقفها الطفل الأخر و أخبرها:
"خليكي مكانك، الولاه هيما هيعرف مكانا".
هزت رأسها بالموافقة و قالت:
"ماشي".
أنتهي الولد الذي يدير اللعبة من تكرار الكلمة التي كان يرددها ثم ذهب ليبحث عن أقرانه، لاحظ وجود سندس و الطفل الأخر، بينما هما كانا يوليا ظهرهما إليه.
"مسكتكم".
صاح بها الصغير و يمسك بيد كل منهما، و كان هذا المشهد تراقبه هذه المرأة من خلف النافذة و نظرات عيناها تنضح بالشر و التوعد.
ظهر من ورائها رجل يسألها:
"واقفة عندك بتعملي إيه يا يسرية؟".
أشارت إليه و أخبرته بإتهام زائف:
"تعالي أتفرج و شوف بنتك مقصوفة الرقبة أم ست سنين مستخبية ورا السور مع ولدين".
أجفلته كلماتها بصدمة، ركض ليري ما تخبره إياه، فوجد ابنته تمسك بيد الطفل و بيدها الأخري تنفض عبائتها من الغبار حيث كانت تجلس علي الأرض، لم ينتظر أن يري بقية المشهد فأسرع للحاق بصغيرته تحت كلمات شقيقته سوداء القلب:
"ياما قولت لك بنتك لازم تعملها العملية و مراتك الإسكندرانية تقولك لاء، خليها لما تجيب لكم العار ".
و في الخارج رأت المرأة الأخري ابنتها برفقة الطفلين، أسرعت نحوها:
"بت يا سندس، اللي موقفك هنا مع الولاد؟".
رمقتها الطفلة ببراءة و قالت:
"كنا بنلعب إستغماية".
جذبتها من يدها الصغيرة و وبختها:
"حسك عينك أشوفك مرة تانية تلعبي مع الصبيان، مش ناقصين كلمتين من ابوكِ و لا عمتك الحرباية يحرقوا دمي".
ما زالت ترمق والدتها ببراءة:
"حاضر يا ماه".
و كادت تقترب والدتها من منزلهم وجدت زوجها يقف و كأنه في إنتظارهما، علي وجهه إمارات الغضب:
"بنت الـ... دي كانت بتعمل إيه مع الصبيان؟".
و قبل أن تجيب لاحظت وقوف شقيقته خلف النافذة، أدركت أن هناك بلاء سوف يحدث بسبب تلك الأفعي التي تقطن معهم منذ سنوات بعدما أنفصلت عن زوجها بسبب عدم قدرتها علي الإنجاب، و منذ أن وطأت قدمها منزل شقيقها حولته جحيماً من فرط المشاكل المستمرة و التي تشعل نيرانها.
حدقت إليه بإمتعاض:
"هاتكون بتعمل إيه يعني، كانت بتلعب مع العيال أستغماية ".
جذب ابنته من يدها بعنف:
"البنت مش هاتعتب باب الدار تاني و لا عايزاها تطلع لخالتها!".
رمقته بغضب عارم:
"عمرك ما هاتتغير يا عبد الحي طول ما أنت ماشي ورا أختك العقربة اللي جت خربت بيتنا من يوم ما دخلته".
صاح يحذرها:
"ملكيش صالح بأختي، و لو مش عاجبك أمشي بس لوحدك من غير بنتك".
أجابت بلوم و عتاب حاد:
"بقي دي أخرتها أخص عليك، و أنا اللي مضيعة صحتي عليكم و بتمرمط في خدمة البيوت و استحمل إهانة ده و نظرات دي علشان أساعدك و أقف جمبك، كنت بحسبك راجل...
"أنا راجل غصب عنك و عن أهلك".
قالها و يهوي علي خدها بلطمة قوية أمام أعين ابنتهما التي أختبأت خلف والدتها بخوف من والدها.
صرخت زوجته و قالت:
"أقسم بالله ما أنا قاعدة لك فيها تاني ".
همت بالذهاب فأوقفها بجذب يد ابنته مرة أخري و أخبرها:
"لو هتغوري عند أهلك روحي لوحدك، بنتي ما تخرجش من دار أبوها".
نظرت إلي ابنتها التي تمسكت بطرف عبائتها و قالت بتوسل:
"ما تسيبنيش يا ماه مع أبويا و عمتي ".
"و عمتك عملت لك إيه يا مقصوفة الرقبة، اللوم مش عليكِ، اللوم علي أمك اللي معرفتش تربيكِ".
كانت يسرية التي خرجت من المنزل للتو، فأجابت والدة سندس:
"أنا مش هرد عليكِ لأنك ست كبيرة و شكلك خرفتي، و عموماً أنا سايبة لك الدار أشبعي بيها أنتِ و أخوكِ ".
و قد كان تركت المنزل و ذهبت إلي إحدي معارفها، فليس لديها سوي شقيق يعيش في بلدة أخري و أخت لم تعلم عنها شئ منذ أن وقعت ضحية لإحدي الشباب، خدعها بوهم الحب و سلب منها عذريتها و نتج عن هذا حمل أكتمل حتي الولادة و بعدما وضعت ولدها في المشفي تركته و هربت.
ـــــــــــــــــــ
و في اليوم التالي كان البيت في هدوء الذي يسبق العاصفة، حتي طرق الباب و ذهبت يسرية لتقوم بفتحه، ظهرت إمرأة ذات جلباب أسود مخيفة الملامح.
"فين العروسة؟".
كان سؤال تلك المرأة فأشارت إليها الأخري نحو إحدي الغرف:
" نايمة جوه الأوضة دي، تعالي معايا".
دخلت يسرية الغرفة و خلفها المرأة، أقتربت من ابنة شقيقها و لكزتها:
"أصحي كل ده نوم".
أستيقظت سندس بفزع تتلفت من حولها:
"في إيه يا عمتي، امي رجعت؟".
حدقت الأخري إليها بإزدراء و شر:
"اللهي ما ترجع تاني".
انتبهت الصغيرة إلي السيدة التي تنتظر خلفها، أرتعدت فرائصها من ملامحها المخيفة و زاد خوفها نظرات عمتها إليها تخبرها بأن هناك كارثة سوف تحدث لها فسألت بعفوية و براءة:
"مين دي يا عمتي و بتعمل إيه هنا؟".
و بعد قليل دوت صرخات سندس بين كل جدران المنزل، تستغيث و تنادي والدتها بأن تأتي لتنقذها من براثن تلك الوحوش الآدمية
"أماه، ألحقيني يا ماه".
لم تكتف عمتها بما تفعله بها المرأة الأخري بل أخذت تهوي علي خدها لطمة تلو الأخري لكي تجبرها علي الصمت، و ما أن قامت السيدة بمسك المبضع و بدأت بعملها أطلقت الصغيرة صرخة عارمة بدأت تخبو رويداً رويداً حتي فقدت الوعي!
ــــــــــــــــ
علمت والدة سندس بما حدث مع إبنتها بعد أن أخبرها إحدى جيرانها، ذهبت علي الفور و أخذت تطرق الباب بقوة، جاء إليها صوت يسرية الغليظ:
"أصبر يالي علي الباب".
و بمجرد أن فتحت، دفعت الأخري الباب و دخلت بعنف:
"عملتوا في بنتي إيه يا يسرية!".
صاحت يسرية بصوت جهوري حاد:
"هيكون عملنا فيها إيه يعني، ما هي متلقحة عندك جوة الأوضة زي القردة".
حدقت إليها شزراً ثم ذهب لتطمئن علي ابنتها فوجدتها تغفو و علامات الخوف بادية علي ملامحها و كأنها تري كابوساً مُزعجاً، وضعت والدتها يدها تلامس خدها بحنان:
" سند...
انتفضت الصغير بذعر و خوف تردد:
"سبيني في حالي يا عمتي".
عانقتها والدتها و قلبها يعتصر ألماً، تربت عليها و تمسد ظهرها:
"ما تخافيش يا قلب أمك، أنا هنا و مش هخلي حد يقرب منك تاني، منهم لله عمتك و أبوكِ، اللهي أشوف فيهم يوم".
رفعت سندس رأسها عن صدر والدتها و برجاء تخبر والدتها بملامح باكية يملؤها الشجن :
"ما تسبينيش تاني يا ماه، عشان خاطري، أنا خايفة عمتي هاتموتني".
"ما تخافيش يا حبييتي أنا مش هاسيبك هنا تاني، هاخدك و نروح في أي حتة، بس نبعد عن هنا".
دفعت يسرية الباب و سألتها بتهكم:
"واخدة بنتك و رايحين علي فين يا أمينة؟".
نظرت إليها الأخري بازدراء قائلة:
"ملكيش دعوة بيا و لا ببنتي، أنا هاسيب لك الدار خالص يكش ترتاحي أنتِ و أخوكِ ".
ضحكت يسرية بسخرية و رمقتها بإستهزاء:
"هاتروحي تقعدوا فين عند أختك الهربانة!، و لا أخوكِ اللي مش لاقي ياكل و لا يأكل عياله و مراته!، أنا عن نفسي بتمني أخويا يطلقك النهاردة قبل بكرة، بس للأسف قلبه رهيف و قال إيه بيحبك و ما يقدرش يستغني عنك".
أشارت أمام وجهها بسبابتها قائلة بتحذير و تهديد معاً:
"لأخر مرة بحذرك ملكيش دعوة بيا و لا ببنتي، وحقي و حقها لو معرفتش أخده منكم في الدنيا هاخده في الأخرة بإذن الله".
كادت تذهب فوقفت و أردفت:
"أبقي قولي لأخوكِ يبعت لي ورقتي علي بيت أخويا".
و بالفعل رحلت أمينة من المنزل و معها ابنتها سندس، ظنت إنها قد تخلصت من جحيم شقيقة زوجها الذي لا يملك أمره سوي بأوامر من شقيقته، لا تعلم بأن أحياناً هناك جحيم هيناً عن جحيم أكثر وحشية في انتظارهما!
ترجلت أمينة و ابنتها من القطار في محطة مصر حيث العاصمة، خرجت تبحث عن وسيلة مواصلات لتذهب إلي شقيقها القاطن في قرية من قري محافظة الجيزة، أقتربت من احد المارة و سألته:
"لو سمحت، لو سمحت معلش مفيش هنا عربية بتروح الحوامدية؟".
فكر الرجل قليلاً ثم أخبرها:
"بصي أنتِ تركبي أي مواصلة للجيزة و من هناك هتلاقي عربية توديكي للحتة دي".
أومأت إليه بإمتنان:
"شكراً ".
رد الأخر:
"العفو يا بنتي".
ذهبت أمينة و في طريقها سألتها ابنتها:
"أماه إحنا رايحين علي فين؟".
أجابت الأخري و عينيها تبحث في كل مكان عن سيارات النقل الجماعي:
"رايحين يا حبيبتي عند أخويا، للأسف معندناش حد غيره نروح له".
"أنا عمري ما شوفت أخوكِ يا ماه ".
عقبت الأخري علي مضض:
"أنتِ مش هاتفتكريه عشان لما جه أخر مرة عندنا كنتِ عندك سنتين مش هاتفتكري"
"طيب إحنا كدة مش هنرجع لأبويا تاني؟".
زفرت بنفاذ صبر و قالت:
"يوه بقي بطلي أسئلة الجو حر و مش قادرة أتكلم".
عقدت الصغيرة ما بين حاجبيها و نظرت إليها بإمتعاض، أطلقت والدتها زفرة بعدما رأت تلك النظرة في عينين صغيرتها، مسدت علي خصلاتها الناعمة:
"حقك عليا يا سندس ".
سرعان تلاشي الإمتعاض من نظرات الصغيرة فتحول إلي إبتسامة تسلب قلب من يراها، بادلتها والدتها البسمة، و قاطع تلك اللحظة صوت مساعد السائق ينادي:
" جيزة، جيزة، يلا اللي هيركب معانا جيزة".
أسرعت أمينة و ابنتها تتشبث في يدها بقوة، وقفت أمام المنادي و سألته:
"لو سمحت كنت عايزة أروح للحوامدية".
أخبرها المساعد و يشير إليها نحو داخل السيارة:
"أركبي يا أمي و هخلي الأسطا ينزلك عند الميكروباصات اللي بتروح هناك".
"يلا يا سندس".
قالتها لتجعل صغيرتها تصعد أولاً و تجلس علي المقعد خلف السائق و هي بجوارها.
ـــــــــــــــــــــــ
وصلت أخيراً بعد معاناة إزدحام المرور، توقف السائق جانباً وقال:
"أتفضلي يا مدام ده الشارع اللي قولتي ليه عليه".
نزلت من السيارة و تمسك بيد ابنتها بقوة، تخشي عليها من تلك المنطقة المزدحمة و مركبات النقل الصغيرة الملقبة بـ «التوكتوك»، يقودها شباب صغار بل و أطفال ما بين الأثني عشر عاماً و الثامنة عشر مما يشكل خطر عليهم و علي المارة في الشوارع.
سارت قليلاً حتي وصلت أمام منزل مكون من طابقين يبدو إنه قد شُيدَ حديثاً، تحيطه حديقة صغيرة، لاحظت لافتة صغيرة معلقة علي البوابة الحديدية مدون عليها «منزل السمسمار مرعي عبدالتواب»
وقفت تتأمل المنزل من الخارج بدهشة و إعجاب:
"ماشاء الله".
أقتربت من البوابة و ضغطت علي زر الجرس المجاور لها، أنتظرت حتي سمعت صوت شقيقها:
"مين؟".
و قبل أن تجيب فتح البوابة فوجدها تقف أمامه تمسك ابنتها في يد و اليد الأخري تحمل حقيبة، ظهرت علي ثغره بسمة زائفة و بترحاب مصتنع قال:
"أمينة!، حبيبتي يا أختي أهلاً و سهلاً ".
ارتمت علي صدره و عانقته بشوق رغماً من ردة فعله التي أدركتها للتو.
"وحشتني يا مرعي".
ربت عليها و أجاب بشوق في ظاهره حقيقي علي غرار باطنه:
"و أنتِ كمان يا ختي وحشاني أوي".
نظرت إلي ابنتها و قالت:
"تعالي يا سندس سلمي علي خالك".
نظرت الصغيرة إليه بتوجس و كأنها تري ما يخفيه داخله نحوهما.
بينما تأملها خالها قائلاً:
"بسم الله ماشاءالله، دي كبرت و بقت عروسة زي القمر".
مد يده و أردف:
"أزيك يا حبيبتي، أنا خالك مرعي أخر مرة شوفتك كنتِ لسه مكملتيش سنتين".
لم تتحرك سندس من مكانها و مازالت تنظر إليه بتوجس، أخفض يده و سأل شقيقته:
"هي خايفة مني و لا إيه؟".
وضعت يدها علي رأس صغيرتها و أخبرته:
"لاء هي هتلاقيها مكسوفة بس منك، أومال فين مديحة؟".
تظاهر بعدم سماع سؤالها، فأعادت عليه السؤال مرة أخري
"ها؟، اه مديحة دي نايمة ما أنتِ عارفاها بتنام للضهر، تعالي أنتِ بس أطلعي ريح لكم أنتِ و بنتك شوية من مشوار السفر".
صعدت خلفه إلي الطابق الأعلي و أن وطأت قدمها الشقة أخذت تتأمل الأثاث الحديث، رددت اسم الله عدة مرات ثم سألت شقيقها:
"ربنا يزيد و يبارك يا أخويا، هو أنت هديت بيتك القديم؟".
حك ذقنه و أجاب قائلاً:
"اه، أصل البيت القديم كان خلاص قرب يقع، فمديحة ربنا يبارك لها أدتني ورثها كله و بنيت بيه".
عقدت ما بين حاجبيها بتعجب:
"و هي مراتك كان عندها ورث أصلاً، ده أبوها مات مديون".
أجاب بتوتر:
"لاء ما هو طلع أمها الله يرحمها كانت سايبة ليها و لأخواتها حتة أرض باعوها و كل واحد خد نصيبه".
ألقت نظرة في صمت يبدو أنها لم تصدق إجابته، فهي تعلم شقيقها جيداً عندما يكذب.
و بعد قليل، جلسوا ثلاثتهم بعدما أحضر لهما الطعام و أنتهت من تناوله هي و ابنتها التي أكتفت ببضع لقيمات صغيرة.
بدأت أمينة تسرد ما حدث لها و لإبنتها و مدي سلبية زوجها الذي يطيع شقيقته في أمر، مما جعل مرعي يدرك بأنها لا تريد العودة إلي زوجها، فسألها ليتأكد:
"كل ده يطلع من عبدالحي، أخص علي الرجالة، بس قولي لي ياختي بعد اللي حكتيه ده كله عايزة إيه من الأخر؟".
أجابت بإقتضاب و حسم:
"عايزة أتطلق".
و هناك من كان يسترق السمع منذ البداية، فكانت زوجة شقيقها الحاقدة مديحة، قامت بالنداء:
"مرعي، يا مرعي".
فقال الأخر إلي شقيقته:
"أهي مديحة صحيت أهي هاروح أشوفها عايزة إيه".
ذهب إلي زوجته التي دفعته داخل الغرفة و عيناها تنضح بالغضب:
"هي أختك عايزة تطلق و تقرفنا هي و بنتها! ".
جذبها من يدها و أغلق الباب:
"هش وطي صوتك، أمينة هاتسمعك، و إيه يعني لو قعدت أنتِ ناسية الأرض اللي باني عليها البيت دي، تبقي بتاعت أبويا الله يرحمه و ليها فيه".
صاحت زوجته باعتراض حاد:
"نعم يا أخويا!".
"نعم الله عليكِ، أهدي و بطلي حركاتك دي، أمينة أختي أصلاً عارفها عزيزة النفس و مش هترضي تقعد هنا علي طول، أنا ممكن أشوف لها مطرح إيجار هنا في الشارع أو حتة جمب مننا".
رفعت إحدى حاجبيها و سألته بسخرية:
"و مين بقي اللي هيدفع لها الإيجار و لا تكون ناوي أنت اللي تصرف عليهم!".
"يخربيت شيطانك ياشيخة، أهدي بقي شوية بقولك أختي و أنا عارفها مش هترضي تبقي عالة علي حد، هي شاطرة جدا في شغل البيت و الأكل و كان فيه جماعة من الهرم كانوا عايزين واحدة شاطرة زيها و هيدولها مرتب حلو أوي، غير عمولتي اللي هاخدها".
إبتسمت زوجته علي مخططه، عقبت قائلة:
"يخربيت شيطاني أنا برضو! ".
"مديحة، أنا بحذرك إياك تقلي بأصلك معاها، أطلعي سلمي عليهم و اقعدي معاها شوية و ابقي انزلي وضبي لهم الشقة اللي تحت عشان ياخدوا راحتهم".
أمرها بتحذير، فأطلقت زفرة كدلالة علي صبرها الذي أوشك علي النفاذ ثم قالت:
"حاضر ".
أشار إليها آمراً إياها:
"طب يلا أخرجي قدامي".
و بالخارج كانت أمينة تتأمل ابنتها التي غفت و رأسها تستند علي فخذها، تمسد علي جدائلها بحزن.
"يا أهلاً يا أهلاً ده البيت نور ".
كان تهليل و ترحيب مديحة الزائف، و تدركه أمينة جيداً بادلتها العناق و المصافحة:
"تسلمي يا مديحة ".
ثم نظرت إلي شقيقها الذي يعلم ماهية نظرتها تلك، تنحنح و قال لزوجته:
"يلا يا مديحة أعملي اللي قولت لك عليه".
هزت رأسها بإبتسامة تظهر أسنانها كاملة، و كانت أمينة قد نظرت إليها في صمت، و بعد أن ذهبت الأخري لتفعل ما أمرها به زوجها، أخبر مرعي شقيقته بإنها توجد لديه فرصة عمل لها سوف تجعلها ميسورة الحال، فكانت الصدمة عندما علمت إنه يريدها أن تعمل خادمة لدي إحدي العائلات الثرية، لكن كلما تنظر إلي ابنتها الصغيرة يزداد خوفها، وجدت بأن عليها أن تكافح من أجلها و تعمل بكد لكي توفر إليها سبل الحياة.
و في نهاية حديثه سألها:
"قولتي إيه يا أمينة؟ ".
أومأت إليه بالموافقة ثم أجابت و عيناها لا تحيد عن ابنتها النائمة:
"موافقة، كل يهون عشان بنتي".
الثالث
بعد مرور احدى عشر عاماً...
"ماما، يا أمي؟"
تركض و تبحث عن والدتها داخل المنزل، و الفرح يغزو ملامحها الفاتنة، فقد كبرت و ترعرعت و أصبحت علي مشارف أن تتم السابعة عشر ربيعاً، كلما كبرت أزداد جمالها الأخاذ، كم من رجال ذهبوا إلي خالها لطلب يدها، لكن والدتها كانت ترفض أن تتزوج في سن مبكرة، بل تريدها أن تتعلم و تصبح ذات شأن، فهي الآن انتهت من مرحلة التعليم الثانوي الفني.
خرجت أمينة من المرحاض تردد الإستغفار، ركضت ابنتها نحوها:
"بارك لي يا أمي جبت ٩٥٪، و المستر قالي كده ممكن تدخلي كلية مش معهد".
رفعت يدها في وضع الدعاء:
"الحمد و الشكر لله، الحمدلله يارب ما ضيعتش تعبي و لا تعبها علي الفاضي، ألف مبروك يا ضنايا".
قالتها و عانقتها بفرح و سعادة، فقالت سندس:
"عارفة يا أمي أول ما أتخرج و أشتغل أول حاجة هاعملها نروح أنا و أنتِ نعمل عمرة، عمري ما أنسي دموعك لما بتنزل كل ما تشوفي الكعبة في التلفزيون، ربنا يقدرني و أحقق لك حلمك".
قامت بتقبيل ظهر يد والدتها التي عانقتها مرة أخري:
"يا قلب أمك ربنا يبارك لي فيكِ، أنا مش عايزة حاجة من الدنيا غير إن أشوفك أحسن حاجة، تتعلمي و تبقي مهندسة قد الدنيا و ربنا يرزقك بابن الحلال اللي يصونك و يشيلك جوه عينيه، ناوليني التليفون أكلم خالك مرعي أفرحه".
نظرت إليها الأخري بامتعاض و قالت برفض:
"ما تقوليش ليه حاجة، تفرحيه بأمارة إيه!، لما أول ما جينا له خلاكِ تشتغلي خدامة في الفلل و البيوت و هو باني بيته علي حقك و نصيبك أنتِ و خالتي!، و يوم ما ربنا فتحها عليه من وسع ما بقاش يعبرنا، ده سأل علينا أخر مرة من سنة و كل ده و إحنا عايشين في حارة واحدة!".
نظرت أمينة إلي أسفل بحزن و قالت:
"ما تنسيش إنه كرمنا في بيته يجي شهر عقبال لما لاقينا سكن، و برضو لولاه مكنتش هلاقي شغل عرفت أعلمك و أعيشك منه و بإذن الله هجوزك و أجيب لك أحلي جهاز".
"حضرتك شايفة كدة!، ماشي أنتم أحرار مع بعض أنتم أخوات، أنا بقي خليني علي جمب ملكوش دعوة بيا".
قالتها و دلفت إلي غرفتها ثم صفقت الباب بقوة تحت نظرات أمينة التي تبكي رغماً عنها.
ــــــــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي، خرجت من غرفتها وجدت والدتها داخل المطبخ تعد طعام الفطور، تذكرت ما حدث بالأمس، دخلت إليها و وقفت بخجل معتذرة:
"أنا آسفة يا أمي، حقك عليا مكنش قصدي أزعق معاكِ إمبارح".
و قامت بمعانقة والدتها، فقالت الأخري:
"عمري ما بزعل منك يا ضنايا، أنا كل اللي عايزاه من الدنيا أشوفك مبسوطة و أطمن عليكِ".
قالتها و قد باغتها ألم في رأسها فتأوهت رغماً عنها، سألتها ابنتها بخوف و قلق:
"مالك يا أمي إيه اللي تاعبك؟".
أجابت الأخري بوهن:
"دول شوية صداع و هايروحوا لحالهم".
أمسكت بيد والدتها:
"طب تعالي أدخلي أوضتك و أرتاحي، أنا هعمل الفطار و هانزل أجيب لك برشام للصداع ".
انتهت من إعداد الفطور و وضعت الصينية فوق المنضدة أمام والدتها:
"اتفضلي أفطري، عقبال ما أنزل للصيدلية اللي جمبنا و طالعة علي طول".
أرتدت إسدال الصلاة الذي ينقذها في تلك المهام السريعة و غادرت المنزل لشراء الدواء، وجدت الصيدلية التي ذكرتها منذ قليل مغلقة بسبب أعمال حفر أمامها، أخذت تتلفت يميناً و يساراً
"ده كده مفيش غير أروح الصيدلية اللي في الشارع اللي ورانا و دي فيها الواد الملزق الرخم ".
سارت و في كل خطوة تجد أعين الشباب و الرجال تلاحقها بالنظرة أول القول، لم تكترث لهم و تابعت السير حتي وصلت إلي الصيدلية و قامت بشراء الدواء.
"اتفضلي العلاج يا قمر".
كان هذا الشاب التي تمقته هي، اخذت منه الدواء و رمقته بازدراء و ألقت في وجهه المال و قالت بصوت خافت:
"يخربيت تقل دمك يا أخي".
غادرت الصيدلية علي الفور و كادت تعبر الشارع الملئ بالماء الراكدة، عبرت سيارة سوداء فارهة قامت عجلاتها بنثر المياه عليها، شهقت و صاحت:
"إيه الغباء ده يا أعمي".
توقفت السيارة فجأة ثم عادت ببطئ حيثما تقف سندس التي رفعت طرف الإسدال قليلاً و تنظر بضيق إلي بقع المياه علي ثيابها، أنتبهت إلي صوت رجولي أجش:
"إيش بتقولين؟".
رفعت وجهها و نظرت إلي صاحب الصوت الذي يرتدي نظارة سوداء قاتمة، يبدو من مظهره و لهجته غير مصري.
خلع نظارته ليتمكن من رؤيتها جيداً، غر فاهه يتأمل عينيها اللوزية ذات اللون العسلي تزينها أهداب سوداء كثيفة، يحاوط وجهها المستدير و وجنتيها المكتنزة و شاحاً باللون الأسود و كأنها بدر منير تحيطه سماء مظلمة.
"ماشاء الله تبارك الله، سبحان ما أبدع و سوي هذا الچمال، بس يا خسارة".
رمقته بإمتعاض و صاحت في وجهه:
"أنت أتهبلت يعني غلطان باللي عملته فيا بسبب عربيتك و كمان بتعاكس! ".
رفع يديه و قال:
"أنا ما صبي لأچل أعاكس كيف ما بتقولين، ممكن إيش هو اسمك؟".
اتسعت عيناها بغضب، لم تجد إجابة سوي الصمت و همت بالذهاب، لكن منعها من الذهاب بفتح باب السيارة أمامها ثم نزل من السيارة و وقف أمامها مباشرة، تراجعت إلي الخلف ثم تعثرت في حجرة بارزة من الأرض، كادت تقع فأمسك عضديها و عيناه كانت تخترق روحها و ليست عيناها.
"أنتِ بخير؟".
أومأت إليه بنعم ثم نفضت يديه عن ذراعيها و ركضت في الإتجاه المعاكس، بينما هو كان مازال يقف يتابعها بنظرة غريبة، رفع زاوية فمه جانباً بإبتسامة ذئب قد وجد فريسته، و عقب قائلاً:
"يا خسارة".
ـــــــــــــــــ
صعدت علي الدرج بسرعة الريح، أخذت تضغط علي زر الجرس عدة مرات حتي فتحت والدتها:
"مالك بترني الجرس كذا مرة ورا بعض ليه كدة؟".
دخلت و جذبت حجابها:
"أصل، أصل كنت عطشانة أوي".
قالتها و ذهبت إلي غرفتها، كانت تنظر إليها والدتها بتعجب:
"علي فكرة التلاجة في المطبخ".
و بعد مرور وقت، كانت تمكث داخل غرفتها، مازالت نبضات قلبها تخفق بشدة منذ رؤيتها إلي هذا الغريب، أدركت من لهجته إنه من سكان الخليج العربي، أنتابتها ضحكة لا تعلم سببها عندما تذكرت الموقف مرة أخري.
طرق علي باب غرفتها و أتبعه دخول والدتها:
"لسه نايمة؟".
نهضت سندس و أزاحت الغطاء من فوقها:
"تعالي يا ماما".
جلست أمينة بجوارها و كانت عيناها تنضح بسؤال تلفظ به لسانها:
"مش عايزة تقولي إيه اللي جابك من برة مستعجلة و زي ما بتقولي عطشانة و جيتي لا شربتي و لا حتي فطرتي معايا، دخلت لاقيتك نايمة، حد ضايقك برة؟".
هزت رأسها برفض ثم تابعت:
"لاء مفيش، بس كنت تعبانة شوية و عايزة أنام".
أطلقت الأخري تنهيدة:
"ماشي براحتك، أنتِ من نفسك هتيجي تحكي لي، أنا أصلاً بصحيكي عشان أقولك خالك عازمنا علي الغدا بمناسبة نجاحك ".
رفعت زاوية فمها بسخرية و قالت:
"و جاي علي نفسه ليه كدة؟، هتلاقيكِ بعد ما عرفتيه إن نجحت افتكر إنك مستنية منه هدية ليا، أنا هقوم و هاروح معاكِ بس مش واخدة منه أي حاجة، عايزة يديكِ أنتِ براحتك أنا لاء".
ضربتها والدتها بخفة علي ظهرها و قالت:
"قومي يا غلباوية جهزي نفسك عشان ما نتأخرش عليه".
نهضت من الفراش و ذهبت إلي الخزانة و أنتقت ثوب أسود و حجاب أحمر قرمزي.
و بعد قليل وقفت أمام المرآة تنظر إلي مظهرها و تضبط من وضع حجابها، كلما ترتدي شيئاً تزيده جمالاً من حُسنها و بهائها الخلاب.
ـــــــــــــــــــــ
و في منزل مرعي، يجلس في غرفة الضيوف مع زائر لديه
"و الله يا فراس باشا لو كان بإيدي كنت جبت لك طلبك، لكن أنا بطلت الشغلانة دي من زمان بسبب وجع الدماغ و المشاكل اللي بتحصل بين أهل العروسة و جوزها ده غير بقي عندكم البهوات صعبين أوي في المعاملة، و أنا الحمدلله دلوقت بقيت صاحب عقارات عندي اللهم بارك برجين و شغال في التالت".
أخذ الأخر يضحك و قال:
"الله يطول عمرك حاچ مرعي، أنا چيت لك بعد ما خبرني الشيخ مرشود أن هلاجي طلبي عندك، أنا بصراحة لاقيتها، بس ما عارف هي مين ممكن تكون چارتك".
قطب مرعي ما بين حاجبيه:
"جارتي!، هو أصلاً مفيش حد في الشارع أو الجيران عندهم بنات للجواز غير الولية أم حسونة و دي بنتها بعيد عنك مجذوبة، و الباقي يا بنات صغيرين يا إما متجوزين، ألا قولي مش غريبة أن حضرتك شاب في التلاتينات و جاي عايز تتجوز بنت ١٦ سنة، أصل معظم زبايني كانوا من سن الـ ٤٥ لحد ٨٠ سنة، عمري ما جالي شاب في سنك، ما تروح أتجوز كتكوتة روسي شقرا علي الأقل مش هتحتاج تركب كهربا خالص".
رمقه فراس بعدم فهم و سأله:
"ليش؟ ".
أجاب الأخر:
"عشان بتنور لوحدها يا خفيف".
و أطلق قهقهة، فأتاه صوت زوجته:
" مرعي، يا مرعي".
أخفض صوته و أشار له بيده:
"أعوذ بالله الولية مراتي بتشم علي طول، مجرد لما بجيب سيرة أي كائن انثي إن شاء الله تكون سحلية تعرف علي طول، و لا أجدعها كلب بوليسي، عن أذنك هاروح أشوفها عايزة إيه".
ضحك الأخر:
"تفضل ".
ذهب مرعي إلي زوجته التي ترمقه بغضب قائلة من بين أسنانها:
"لما أنت عندك ضيوف عزمت أختك و بنتها ليه علي الغدا؟".
"ما تهدي يا مديحة، الراجل كان جاي في مصلحة و ماشي، عايزاني أطرده!، خلاص كلها دقيقتين و هيمشي".
في تلك الأثناء جاء إتصال هاتفي إلي فراس، فخرج يتحدث خارج المنزل، بينما في الشرفة بالأعلي كانت تقف تنظر إلي المارة في الشارع،
أنتهي من المكالمة و قبل أن يدلف إلي البناء لفت نظره رؤيتها و هي تقف خلف سور الشرفة، تلاقت عينيها في عينيه و قال:
"أخيراً لاقيتك يا بدر البدور".
يتبع.
